الأربعاء ، ٢٢ شوّال ، ١٤٤٥   -   01 مايو 2024

أحاديث الطب وحي أم تجربة؟

 

وردت عن النبي ﷺ أحاديث فيها ذكر أنواع من الأدوية:

فعن ‌ابن عباس رضي الله عنهما قال: «الشِّفَاءُ فِي ثَلاَثَةٍ: شَرْبَةِ عَسَلٍ، وَشَرْطَةِ مِحْجَمٍ، وَكَيَّةِ نَارٍ، وَأَنْهَى أُمَّتِي عَنِ الْكَيِّ»[1].

وعَنْ أَنَسٍ رضى الله عنه: أَنَّ نَاسًا اجْتَوَوْا فِي الْمَدِينَةِ فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَلْحَقُوا بِرَاعِيهِ، -يَعْنِي الإِبِلَ- فَيَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا، فَلَحِقُوا بِرَاعِيهِ فَشَرِبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا، حَتَّى صَلَحَتْ أَبْدَانُهُمْ[2].

وعن أبي هريرة أنه سمع رسول الله ﷺ يقول «إِنَّ فِي الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ شِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ إِلاَّ السَّامَ»، وَالسَّامُ الْمَوْتُ[3].

وعَنْ أُمِّ قَيْسٍ بِنْتِ مِحْصَنٍ قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْعُودِ الْهِنْدِيِّ؛ فَإِنَّ فِيهِ سَبْعَةَ أَشْفِيَةٍ، يُسْتَعَطُ بِهِ مِنَ الْعُذْرَةِ[4]، وَيُلَدُّ بِهِ مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ[5]»[6].

وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال النبي ﷺ: «مَنِ اصْطَبَحَ كُلَّ يَوْمٍ تَمَرَاتٍ عَجْوَةً، لَمْ يَضُرُّهُ سَمٌّ وَلاَ سِحْرٌ ذَلِكَ الْيَوْمَ إِلَى اللَّيْلِ»[7].

وهنا يجدر التنبيه على الأمور التالية:

1- ذهب بعض العلماء إلى أن الأحاديث الواردة في الطب من الوحي المعصوم، وممن ذهب إلى ذلك النووي في شرح مسلم[8]، وابن القيم في زاد المعاد وقال: «نسبةُ طبِّ الأطبَّاء إليه -أي: الطب النبوي- كنسبة طبِّ الطُّرُقيَّة ‌والعجائز إلى طبِّهم»[9]، وقال الذهبي: «كَانَ رَسُوْلُ اللهِ ﷺ أَعْلَمَ النَّاسِ ‌بِالطِّبِّ ‌النَّبوِيّ، الَّذِي ثَبَتَ أَنَّهُ قَالَهُ عَلَى الوَجْهِ الَّذِي قَصَدَهُ، فَإِنَّهُ قَاله بِوَحْيٍ: «فَإِنَّ اللهَ لَمْ يُنَزِّلْ دَاءً، إِلَاّ وَأَنْزَلَ لَهُ دوَاءً»، فَعَلَّمَ رَسُولَهُ مَا أَخْبَرَ الأُمَّة بِهِ»[10].

وقال الحافظ في الفتح: «قال بعضهم: طب النبي ﷺ متيقن البرء لصدوره عن الوحي، وطب غيره أكثره حدس أو تجربة»[11].

ولذا جمع بعضهم أحاديث الطب وأفردوها في مؤلفات كأبي نعيم، والضياء المقدسي، وابن القيم وغيرهم.

2. ذهب فريق من العلماء المتقدمين واللاحقين إلى أن أحاديث الطب خبرة بشرية، وأنه طب البيئة القائم على التجربة، فقال ابن العربي: «هذا الّذي ذَكَرَ النبي من التَّدَاوِي والأدويةِ، ذكَرَ العلّماءُ أنّه خرَجَ على أحدِ قِسْمَي الطّبِّ، وهو الطبُّ التّجاربيُّ، وهو طبُّ الهند والعرَبِ، فخرِّجت أقوالُ النبي عليه السّلام على مذاهب ‌أهل ‌التجربةِ، ليأتِيَ العربُ بما كانت تعتادُهُ، دُنُوًّا منها وتقريبًا للمَرَامِ عليها، ففهمت ذلك منه»، وبنحوه قال الخطابي والقاضي عياض وولي الله الدهلوي وغيرهم[12].

وقال ابن خلدون: ‌«وكان عند العرب من هذا الطّبّ كثير، وكان فيهم أطبّاء معروفون كالحارث بن كلدة وغيره. والطّبُّ ‌المنقول في الشّرعيّات من هذا القبيل، وليس من الوحي في شيء، وإنّما هو أمر كان عاديّا للعرب. ووقع في ذكر أحوال النّبيّ ﷺ من نوع ذكر أحواله الّتي هي عادة وجبلّة لا من جهة أنّ ذلك مشروع على ذلك النّحو من العمل، فإنّه ﷺ إنما بعث ليعلّمنا الشّرائع ولم يبعث لتعريف الطّبّ ولا غيره من العاديّات، وقد وقع له في شأن تلقيح النّخل ما وقع فقال: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ». فلا ينبغي أن يحمل شيء من الطّبّ الّذي وقع في الأحاديث الصحيحة المنقولة على أنّه مشروع فليس هناك ما يدلّ عليه اللَّهمّ إلّا إذا استعمل على جهة التّبرّك وصدق العقد الإيمانيّ فيكون له أثر عظيم في النّفع. وليس ذلك في الطّبّ المزاجيّ وإنّما هو من آثار الكلمة الإيمانيّة كما وقع في مداواة المبطون بالعسل ونحوه»[13].

3- وهناك من العلماء من لم يصرح بأنها ليست وحياً، ولكنه قال قولاً قريباً من ذلك، حيث ضيق دلالتها، وقيد عمومها جداً، حتى يوائم ذلك مع ما ظهر في الواقع والتجربة من أثرها، مثل علاج الحمى بالماء، والتصبح بتمرات العجوة للوقاية من السم والسحر.

فقال ابن التين عن حديث «مَنْ تَصَبَّحَ بِسَبْعِ تَمَرَاتٍ عَجْوَةً لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ سُمٌّ وَلاَ سِحْرٌ»: يحتمل أن يكون المراد نخلاً خاصاً بزمانه ﷺ، وخصّه ابن القيم بأهل المدينة خاصة وأنه يناسبهم ولا يناسب غيرهم، وقال المازري: هذا مما لا يعقل معناه في طريق علم الطب، ولو صح أن يخرج لمنفعة التمر في السم وجه من جهة الطب لم يقدر على إظهار وجه الاقتصار على هذا العدد الذي هو السبع، ولا على هذا الجنس الذي هو العجوة، ولعل ذلك كان لأهل زمانه خاصة، أو لأكثرهم إذ لم يثبت استمرار وقوع الشفاء في زماننا غالباً.

وقال القرطبي: ظاهر الأحاديث خصوصية عجوة المدينة بدفع السم وإبطال السحر، ثم هل هو خاص بزمان نطقه أو في كل زمان؟ هذا محتمل ويرفع هذا الاحتمال التجربة المتكررة[14].

فيلاحظ أن هؤلاء العلماء ضيّقوا دلالة الحديث بتخصيصه بمكان أو زمان.

وثمة استشكال آخر لم يتطرقوا له وهو إصابة النبي ﷺ في المدينة بالسحر والسم، مع أن التمر غالب طعامهم في المدينة كما في حديث عائشة قالت عن طعامهم: الأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ[15].

وكذلك قوله ﷺ: «‌إِنَّ ‌الحُمَّى ‌مِنْ ‌فَيْحِ جَهَنَّمَ فَأَبْرِدُوهَا بِالمَاءِ»[16]، فقيل فيه: يحتمل أن يكون لبعض الحميات دون بعض، في بعض الأماكن دون بعض، لبعض الأشخاص دون بعض، فيحتمل أن يكون مخصوصاً بأهل الحجاز ومن والاهم[17].

ولعل الأقرب -والله أعلم- وصف أحاديث الطب بأنها من أمور الدنيا التي قال فيها ﷺ: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ»[18]، وأن ما ورد عنه ﷺ فهو مما لاحظه بالتجربة وظن فائدته، وليس مما تلقَّاه بالوحي، ولذا فهو مظنة موافقة الواقع أو مخالفته، فإن الطب من مسائل العاديات، فما ورد فيه من أحاديث لا يدخل في نطاق الوحي سواء صح أو لم يصح، فإن وظيفة النبوة طب النفوس لا طب الأبدان، وأن النبي ﷺ مع كونه نبياً لا ينفصل عن بشريته فيأكل ويشرب ويتزوج، ويتعاطى ما يتعاطاه قومه من معارف وأسباب في الأمور الحياتية، قال ابن حزم عند حديث تأبير النخل: فهذا بيان جلي في الفرق بين الرأي في أمر الدنيا والدين، وأنه ﷺ لا يقول الدين إلا من عند الله تعالى، وأن سائر ما يقول فيه برأيه ممكن أن يشار عليه بغيره فيأخذه، وأننا أبصر منه بأمور الدنيا التي لا خير معها إلا في الأقل، وهو أعلم منا بأمر الله تعالى وبأمر الدين المؤدي إلى الخير الحقيقي»[19].

ومما يؤيد ذلك ويدل عليه:

1. أنا لا نجد أن الصحابة كانوا يتتبعون أدويته ﷺ، ويتقصدون العلاج بها، كما أن النبي ﷺ استعمل الأدوية التي وصفها له أطباء العرب، واستدعى الأطباء لأصحابه، وعرض الصحابةُ أنفسَهم على الأطباء واستشاروهم[20].

فعن سعد بن أبي وقاص قال: مرضت فأتانا النبي ﷺ فقال: «إنك مفؤود -أي مصاب في فؤادك- ائت الحارث بن كلدة أخا ثقيف فإنه يتطبب».

وكان يتخير أمهر الأطباء فعن زيد بن أسلم أن رجلاً في زمن النبي ﷺ أصابه جرح فاحتقن الجرح الدم، وَأَنَّ الرَّجُلَ دَعَا ‌رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي أَنْمَارٍ فَنَظَرَا إِلَيْهِ، فَزَعَمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لَهُمَا: «أَيُّكُمَا أَطَبُّ»؟ فَقَالَا: أَوَ فِي الطِّبِّ خَيْرٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَزَعَمَ زَيْدٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «أَنْزَلَ الدَّوَاءَ الَّذِي أَنْزَلَ الْأَدْوَاءَ»[21].

 

2. أن أهل بيته ﷺ لدوه[22] في مرضه، قَالَتْ عَائِشَةُ لَدَدْنَاهُ فِى مَرَضِهِ، فَجَعَلَ يُشِيرُ إِلَيْنَا، أَنْ لاَ تَلُدُّونِي، فَقُلْنَا كَرَاهِيَةُ الْمَرِيضِ لِلدَّوَاءِ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: «أَلَمْ أَنْهَكُمْ أَنْ تَلُدُّونِي؟» قُلْنَا: كَرَاهِيَةَ الْمَرِيضِ لِلدَّوَاءِ، فَقَالَ: «لاَ يَبْقَى فِي الْبَيْتِ أَحَدٌ إِلاَّ لُدَّ -وَأَنَا أَنْظُرُ- إِلاَّ الْعَبَّاسَ فَإِنَّهُ لَمْ يَشْهَدْكُمْ»[23].

فهم قد عالجوه باللدود، ورأوا رفضه لذلك فظنوا أنه فعل فطري وهو كراهية المريض للدواء، وعالجوه بما يرونه علاجا، وهذا يدل على أنهم لا يرون رأيه في العلاج وحيا، وأمراً شرعياً.

3. عندما توجه عمر إلى الشام بلغه خبر الطاعون قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقَالَ عُمَرُ ادْعُ لِي الْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ، فَدَعَاهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّأْمِ، فَاخْتَلَفُوا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ خَرَجْتَ لأَمْرٍ وَلاَ نَرَى أَنْ تَرْجِعَ عَنْهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعَكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلاَ نَرَى أَنْ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ، فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: ادْعُوا لِي الأَنْصَارَ، فَدَعَوْتُهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ فَسَلَكُوا سَبِيلَ الْمُهَاجِرِينَ، وَاخْتَلَفُوا كَاخْتِلاَفِهِمْ، فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْفَتْحِ، فَدَعَوْتُهُمْ فَلَمْ يَخْتَلِفْ مِنْهُمْ عَلَيْهِ رَجُلاَنِ، فَقَالُوا: نَرَى أَنْ تَرْجِعَ بِالنَّاسِ، وَلاَ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ، فَنَادَى عُمَرُ فِي النَّاسِ: إِنِّي مُصَبِّحٌ عَلَى ظَهْرٍ فَأَصْبِحُوا عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ: أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ؟ فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ؟ نَعَمْ، نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ إِبِلٌ هَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ إِحْدَاهُمَا خَصِبَةٌ وَالأُخْرَى جَدْبَةٌ، أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الْخَصْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ، وَإِنْ رَعَيْتَ الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ؟ قَالَ: فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَكَانَ مُتَغَيِّبًا فِي بَعْضِ حَاجَتِهِ، فَقَالَ إِنَّ عِنْدِي فِي هَذَا عِلْمًا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ». قَالَ: فَحَمِدَ اللَّهَ عُمَرُ ثُمَّ انْصَرَفَ[24].

والذي نلاحظه في هذا الخبر أن مسلمة الفتح لم يختلفوا، وإنما اتفقوا جميعاً على الرجوع وعدم القدوم على الوباء، وسبب اتفاقهم هذا اعتمادهم الخبرة الطبية المنتشرة في وقتهم عن العدوى، فجاء الحديث النبوي موافقاً لهذه الخبرة الحياتية الملاحظة بالتجربة، بينما اختلف من قبلهم لأن بعضهم رأى أن في الرجوع قدحاً في التوكل.

ولذا فإن عدم القدوم على الوباء وعدم الخروج منه هو خبرة بشرية عرفتها الشعوب بالتجربة ومنهم العرب، ولا يصح أن نصفها بأنها طب نبوي فضلاً عن القول بالسبق النبوي إلى الحجر الصحي، وأنه موجود في السنة قبل أن تعرفه البشرية، ولسنا بحاجة إلى التزيد لإثبات صدق الصادق المصدوق ﷺ بهذه الدعاوى.

4. قال ﷺ: «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَنْهَى عَنِ الْغِيلَةِ حَتَّى ذَكَرْتُ أَنَّ الرُّومَ وَفَارِسَ يَصْنَعُونَ ذَلِكَ فَلاَ يَضُرُّ أَوْلاَدَهُمْ»[25]، وهذا دليل جلي على أن هذا النهي كان الاعتماد فيه على الملاحظة البشرية وليس الوحي الإلهي، وعليه فإن بقية ما يتعلق بتدبير الصحة هو من هذا الباب.

5. ما ذكره النبي ﷺ كان أدوية مجملة، فلم يذكر مقاديرها، ولا طريقة تحضيرها، ولا طريقة التداوي بها، مثل قوله عن الكمأة «وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ»[26]، ولم يذكر ما هو ماؤها، هل يعصر منها أو يغلى معها؟ ولذا اختلف العلماء في طريقة تطبيق هذا الوصف، وذكروا أن هناك من استعمله على ظاهره فأضره وعمى بذلك، أو رمد[27]، فعن صالح وعبد الله ابني الإمام أحمد أنهما اشتكت أعينهما فأخذا كمأة وعصراها واكتحلا بمائها فهاجت أعينُهما ورمدا، وذكر ابن الجوزي أن بعض الناس عصر ماء كمأة فاكتحل به فذهبت عينه[28].

أما الصحابة فلم يستفصلوا ولم يسألوا مما يدل على أن ما ذكره النبي ﷺ كان نوعا من التداوي معروفاً تفصيله لديهم، ويكفي من النبي الإشارة إليه فيعرفون الوصفة ومقدارها وطريقتها.

فكان ذكر التداوي بها مع من كانوا يعرفون طريقتها، ولا يمكن لنا اليوم ادّعاء معرفة طريقتها عندهم.

قال المازري: علم الطب من أكثر العلوم احتياجاً إلى التفصيل، حتى إن المريض يكون الشيء دواءه في ساعة ثم يصير داءً له في الساعة التي تليها لعارض يعرض له، وإذا فرض وجود الشفاء لشخص بشيء في حالة ما لم يلزم وجود الشفاء له أو لغيره في سائر الأحوال[29].

فأين هذا التفصيل الطبي في هذه الوصفات الواردة عنه ﷺ، وأي تكلف في تقديرها أو تفصيلها وطريقة التداوي بها فهو تكلف وادّعاء خارج عن النص الوارد.

ونحن بغنى عن ذلك كله إذا قلنا: إن النبي ﷺ كان يحكي خبرة بشرية وليس وحياً سماوياً.

6. يلزم من وصف الطب بالنبوي، أن نصف لباسه باللباس النبوي، وأكله بالأكل النبوي، وسفره بالسفر النبوي، وهكذا يتحول الهدي النبوي المتحرك إلى جمود لحركة الحياة وتطورها.

7. هناك مجالات في الحياة أهم من الطب ولم يتخذ النبي ﷺ لها نظاماً خاصاً يعينه لها، كالشأن العسكري، ففي معركة أُحد جمع الصحابة واستشارهم، وعندما جاء الأحزاب لم ينتظر الوحي وإنما جمع الصحابة واستشارهم أيضاً، واتخذ استراتيجية في الخندق غير استراتيجيته في أُحد، فلكل معركة ظروفها وتطورها، وهكذا شأن أمور الحياة الدنيوية بعامة، الأصل فيها التطور والتغير، كطرائق الزراعة، والصناعة، والعمران، والطب ونحوها.

8. لم يرد في شرائع الأنبياء تشريع في المعالجة الطبية وأدواتها وما جاء عن عيسى هي معجزات دالة على نبوته وليست شريعة لأمته؛ وذلك لأن الأنبياء هداة إلى طريق العبودية لله وليسوا أطباء ولا صيادلة.

9. الطب النبوي ينبغي أن يكون قاصراً على ما له تعلق بالتعبد كالرقى والدعوات والتعوذات ونحوها؛ لأنها تشريع مصدره الوحي، وهو تعامل مع الله وتعبد له وفق ما شرعه، أما ما كان من العلاج بالأغذية والأدوية، والأعشاب، فمرجعه للخبرة والتجربة.

10. من التكلف القول بأن ما ورد من الأدوية المذكورة في الأحاديث إنما تنفع إذا استعملت باعتقاد النفع، فإن ذلك يُخرج الطب عن كونه طباً، إذ الطب محاولة لتلمس الأسباب الكونية الموصلة لدفع المرض واسترداد الصحة، فإن الله أجرى الكون على مقتضى هذه الأسباب غالباً بغض النظر عن اعتقاد فاعلها[30].

11. وهذه الوصفات الدوائية وصفات بسيطة غير معقدة ولا مركبة، وهي من جنس أغدية البيئة العربية والتي تكون غالبا بسيطة قليلة الأخلاط، والتداوي بها ثقافة عربية شائعة في ذلك العصر، وموجود في البيئة العربية في بادية الحجاز، والبيئات المشابهة لها، كبلاد نجد وبادية العراق والشام، فهم يعرفونه ويتوارثونه، ويتداوون به باعتباره طباً تجريبياً وليس طباً نبوياً، بل لا يعلمون غالبا أحاديث الطب هذه ولا يروونها لغلبة الأمية فيهم، ومن أمثلة ذلك التداوي بأبوال الإبل وألبانها، فهي ثقافة طبية بدوية معروفة في بلاد العرب إلى اليوم يستخدمونها لعلاج الأمراض الباطنية من غير احتجاج بالحديث، وإنما بالخبرة والتجربة، فيخلطون حليب الإبل بقليل من بول ناقة بكر ويسمونه الوَزْر، وهي وصفة مناسبة للبيئة البدوية، ولذا أرشد النبي ﷺ إليها الأعراب، وأما أهل المدينة فلم يذكرها لهم، وعندما اشتكى إليه رجل أن أخاه قد استطلق بطنه أرشده إلى العسل، فهو طب المدن، ولذا فلا يعلم أن النبي ﷺ تداوى بألبان الإبل وأبوالها، ولا أرشد إليها أحدا من أصحابه، ولم يرو إلا في حديث العُرنِيّين لأنهم أعراب لم يناسبهم ريف المدينة فأعادهم إلى بيئتهم الصحراوية ليصحوا فيها.

ولهذا فالصواب تسمية أحاديث الطب بطب البيئة، أو الطب العربي، وليس الطب النبوي؛ لأن الإضافة إلى النبوة يجعل مصدرها الوحي، بينما كان مصدرها الخبرة البشرية، وهو ما يسمى اليوم بالطب الشعبي.

12. إذا كان قد حصل التوسع والتكلف والتأويل المستكره فيما يسمى بالإعجاز العلمي في القرآن والسنة، فحولت دلالات النصوص من كونها خطاباً للفطرة البشرية لدلالة الخلق على عظمة الخالق فيما خلق، ولإقامة الحجة عليهم حسب إدراكهم الفطري المشترك، ﴿‌هَذَا ‌خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ﴾، فحولت هذه النصوص إلى آيات في علم الفلك، وعلم الأجنة، والجيولوجيا، بحيث لا يُفْهم معناها إلا في المختبرات والمراصد وأجهزة الكمبيوتر.

فإن هذا التوسع حصل أشد منه فيما يسمى بالإعجاز العلمي في الطب النبوي، إلا أنه قد خالطه في أحاديث الطب النبوي معرة أخرى خطيرة، وهي شهوة الطمع والتجارة، واستغلال الدين للدنيا، بتحضير وصفات ومستحضرات وأخلاط على أنها من الطب النبوي، وربما يتوسع باب الدجل والاحتيال إلى ادّعاء اكتشاف أدوية نبوية للأمراض المستعصية كالسرطان والإيدز، وادّعاء أن شركات الأدوية تحارب الطب النبوي، ليبقى هذا الكشف سراً لا يعرفه إلا هؤلاء المسوقون للغباء باسم الطب النبوي.

كتبه: عبد الوهاب بن ناصر الطريري

 

 

 

[1] «صحيح البخاري» (5680).

[2] «صحيح البخاري» (5686)، و«صحيح مسلم» (1671).

[3] «صحيح البخاري» (5688)، و«صحيح مسلم» (2215).

[4] العذرة: وجَعٌ فِي الحَلْق يَهيجُ مِنَ الدَّم «النهاية» لابن الأثير (3/198).

[5] ذات الجنب: الدمل الكبيرة التي تظهر في الجنب، «النهاية لابن الأثير» (1/303).

[6] «صحيح البخاري» (5692)، و«صحيح مسلم» (2214).

[7] «صحيح البخاري» (5768)، و«صحيح مسلم» (2047).

[8] «شرح النووي على مسلم» (14/3).

[9] «زاد المعاد لابن القيم» (4/8)

[10] «سير أعلام النبلاء» (14/29)

[11] «فتح الباري لابن حجر» (10/17).

[12] «المسالك» لابن العربي (7/453)، و«أعلام الحديث» للخطابي، (3/2107)، و«إكمال المعلم» (6/531) و«حجة الله البالغة» للدهلوي، (1/224).

[13] «مقدمة ابن خلدون» (1/651).

[14] ذكر هذه الأقوال الحافظ في «الفتح» (10/ 177). وابن القيم في زاد المعاد (4/134).

[15] «صحيح البخاري» (6495).

[16] «سنن الترمذي» (2074).

[17] ينظر: فتح الباري (10/ 177)، وزاد المعاد (4/134).

[18] «صحيح مسلم» (2363).

[19] «الإحكام في أصول الأحكام» لابن حزم (5/138).

[20] «الطب النبوي لأبي نعيم» (1/19)، (2/646) و«فقه الطب النبوي».

[21] «موطأ مالك» (12).

[22]  اللد: هو مَا يُسقاه الْمَرِيضُ فِي أحَدِ شِقّيِ الفَمِ. «النهاية» لابن الأثير (4/245).

[23] «صحيح البخاري» (4458).

[24]  «صحيح البخاري» (5729).

[25] «صحيح مسلم» (1442).

[26] «صحيح البخاري» (4478)، و«صحيح البخاري» (2049).

[27] الرمد: هيجان العين، وانتفاخها «تاج العروس للزبيدي» (8/116).

[28] «فتح الباري لابن حجر» (10/164).

[29] «فتح الباري» لابن حجر. (10/77).

[30]  «فقه الطب النبوي» (64).

نشر :

إضافة تعليق جديد

 تم إضافة التعليق بنجاح   تحديث
خطأ: برجاء إعادة المحاولة