الأربعاء ، ١٤ ذو القعدة ، ١٤٤٥   -   22 مايو 2024

الدعوة السرية والجهرية

الدعوة السرية والجهرية

الدعوة السرية والجهرية

تتابعت كثير من كتب السيرة على تقسيم الدعوة النبوية في مكة إلى فترتين:

الأولى: الدعوة السرية:

كان الرسول صلى الله عليه وسلم يخفي فيها أمره ويسر بدعوته إلى من يثق بهم إلى أن أمره الله بإظهار دينه وكانت مدة هذا الإسرار ثلاث سنين، وقيل سنتان، وقيل أربع أو خمس[1].

الثانية: الدعوة الجهرية:

وفيها جهر النبي صلى الله عليه وسلم بدعوته بعد أن أنزل الله عليه: {فاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ}، وقوله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}.

وقد ذكر ذلك ابن إسحاق بدون إسناد، وابن سعد بسند مرسل ضعيف جداً.

والذي يظهر أن الدعوة النبوية كانت جهرية من بدايتها، ويدل على ذلك:

  1. أنزل الله على رسوله أول ما أنزل بعد «اقرأ» {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}.

والأمر بالنذارة في هذه الآيات استنفار صريح بالجهر والإعلان بقوله: {قُمْ} وهو استنهاض يناسب الإعلان لا الإسرار، ومفعول {أنذر} محذوف لإفادة العموم، أي: أنذر الناس كلهم[2].

  1. قوله: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} يدل على أن لهذا الإنذار تبعات تحتاج إلى صبر، وهذا مناسب لحال الجهر لا الإسرار.
  2. قوله تعالى في السورة: {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ * نَذِيرًا لِلْبَشَرِ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ}، فهذه الآيات من السورة تدل على عموم النذارة لكل البشر، وإن لم تكن مما نزل مع أول السورة ولكن لا يمكن أن تكون متأخرة عنها بأمد.
  3. أن ثلاث سنين مدة طويلة ثمينة في عمر البعثة النبوية فلا يمكن أن تمضي بدعوة هامسة لا يعلم بها إلا من أسر إليه بها.
  4. وأما قوله تعالى: {فاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ}، فليس مفهومها أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن صادعا ثم أمر بالصدع، ولكنه تأكيد وتكرير للأمر بالقيام بالإنذار {قُمْ فَأَنْذِرْ}، مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}، وهي الآية التي نزلت في السنة العاشرة للهجرة، فليس مفهومها أنه لم يكن قد بلغ، بل بلغ صلى الله عليه وسلم وأتم البلاغ وإنما هي تأكيد للأمر.
  5. وكذلك قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} فهي من باب ذكر الخاص بعد العام، فهي نذارة خاصة بعد النذارة العامة في قوله: {قُمْ فَأَنْذِرْ}. مثل قوله تعالى عن نبيه إسماعيل: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا}. فهو تخصيص للأهل بعد عموم الأمر لغيرهم.

ولذا فالذي يظهر أن المراد بسرية الدعوة سرية الإتباع والانتماء لها، وأن من آمنوا لم يعلنوا إسلامهم حتى لا يبادرهم قومهم بالإنكار عليهم إن كانوا من الأشراف، أو يتسلطوا عليهم بالإيذاء إن كانوا من المستضعفين.

والأخبار الصحيحة تشير إلى شيء من ذلك، كحديث عمرو بن عبسة قال: «كُنْتُ وَأَنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَظُنُّ أَنَّ النَّاسَ عَلَى ضَلَالَةٍ، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ، فَسَمِعْتُ بِرَجُلٍ بِمَكَّةَ يُخْبِرُ أَخْبَارًا، فَقَعَدْتُ عَلَى رَاحِلَتِي، فَقَدِمْتُ عَلَيْهِ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَخْفِيًا جُرَءَاءُ عَلَيْهِ قَوْمُهُ، فَتَلَطَّفْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَيْهِ بِمَكَّةَ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا أَنْتَ؟ قَالَ: «أَنَا نَبِيٌّ»، فَقُلْتُ: وَمَا نَبِيٌّ؟ قَالَ: «أَرْسَلَنِي اللهُ»، فَقُلْتُ: وَبِأَيِّ شَيْءٍ أَرْسَلَكَ، قَالَ: «أَرْسَلَنِي بِصِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَكَسْرِ الْأَوْثَانِ، وَأَنْ يُوَحَّدَ اللهُ لَا يُشْرَكُ بِهِ شَيْءٌ»، قُلْتُ لَهُ: فَمَنْ مَعَكَ عَلَى هَذَا؟ قَالَ: «حُرٌّ، وَعَبْدٌ»، قَالَ: وَمَعَهُ يَوْمَئِذٍ أَبُو بَكْرٍ، وَبِلَالٌ مِمَّنْ آمَنَ بِهِ، فَقُلْتُ: إِنِّي مُتَّبِعُكَ، قَالَ: «إِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ يَوْمَكَ هَذَا، أَلَا تَرَى حَالِي وَحَالَ النَّاسِ، وَلَكِنِ ارْجِعْ إِلَى أَهْلِكَ فَإِذَا سَمِعْتَ بِي قَدْ ظَهَرْتُ فَأْتِنِي»[3].

فقول النبي صلى الله عليه وسلم له: «حر وعبد» فهم منه عمرو أنهم اثنان وذلك مبالغة من النبي صلى الله عليه وسلم في إخفاء أتباعه، ولكن الحديث يدل أيضا على أن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الفترة كان معلنا دعوته حتى بلغ خبرها قبائل العرب ومنهم قبيلة أسلم التي منها عمرو بن عبسة.

وحديث أبي ذر لَمَّا بَلَغَه مَبْعَثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لِأَخِيهِ: «ارْكَبْ إِلَى هَذَا الوَادِي فَاعْلَمْ لِي عِلْمَ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، يَأْتِيهِ الخَبَرُ مِنَ السَّمَاءِ، وَاسْمَعْ مِنْ قَوْلِهِ ثُمَّ ائْتِنِي، فَانْطَلَقَ الأَخُ حَتَّى قَدِمَهُ، وَسَمِعَ مِنْ قَوْلِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَبِي ذَرٍّ فَقَالَ لَهُ: رَأَيْتُهُ يَأْمُرُ بِمَكَارِمِ الأَخْلاَقِ، وَكَلاَمًا مَا هُوَ بِالشِّعْرِ، فَقَالَ: مَا شَفَيْتَنِي مِمَّا أَرَدْتُ، فَتَزَوَّدَ وَحَمَلَ شَنَّةً لَهُ فِيهَا مَاءٌ، حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ، فَأَتَى المَسْجِدَ فَالْتَمَسَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ يَعْرِفُهُ، وَكَرِهَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُ حَتَّى أَدْرَكَهُ بَعْضُ اللَّيْلِ، فَاضْطَجَعَ فَرَآهُ عَلِيٌّ فَعَرَفَ أَنَّهُ غَرِيبٌ، فَلَمَّا رَآهُ تَبِعَهُ فَلَمْ يَسْأَلْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أَصْبَحَ، ثُمَّ احْتَمَلَ قِرْبَتَهُ وَزَادَهُ إِلَى المَسْجِدِ، وَظَلَّ ذَلِكَ اليَوْمَ وَلاَ يَرَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَمْسَى، فَعَادَ إِلَى مَضْجَعِهِ، فَمَرَّ بِهِ عَلِيٌّ فَقَالَ: أَمَا نَالَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَعْلَمَ مَنْزِلَهُ؟ فَأَقَامَهُ فَذَهَبَ بِهِ مَعَهُ، لاَ يَسْأَلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ عَنْ شَيْءٍ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الثَّالِثِ، فَعَادَ عَلِيٌّ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ، فَأَقَامَ مَعَهُ ثُمَّ قَالَ: أَلاَ تُحَدِّثُنِي مَا الَّذِي أَقْدَمَكَ؟ قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتَنِي عَهْدًا وَمِيثَاقًا لَتُرْشِدَنِّي فَعَلْتُ، فَفَعَلَ فَأَخْبَرَهُ، قَالَ: فَإِنَّهُ حَقٌّ، وَهُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا أَصْبَحْتَ فَاتْبَعْنِي، فَإِنِّي إِنْ رَأَيْتُ شَيْئًا أَخَافُ عَلَيْكَ قُمْتُ كَأَنِّي أُرِيقُ المَاءَ، فَإِنْ مَضَيْتُ فَاتْبَعْنِي حَتَّى تَدْخُلَ مَدْخَلِي فَفَعَلَ، فَانْطَلَقَ يَقْفُوهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَخَلَ مَعَهُ، فَسَمِعَ مِنْ قَوْلِهِ وَأَسْلَمَ مَكَانَهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ارْجِعْ إِلَى قَوْمِكَ فَأَخْبِرْهُمْ حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي»[4].

 وهذا يدل على استسرار الأتباع، أما الداعي صلى الله عليه وسلم فقد أعلن دعوته حتى بلغت قبيلة غفار في منازلها.

وكذلك حديث المقداد بن الأسود حين قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إِذَا كَانَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ يُخْفِي إِيمَانَهُ مَعَ قَوْمٍ كُفَّارٍ، فَأَظْهَرَ إِيمَانَهُ فَقَتَلْتَهُ؟ فَكَذَلِكَ كُنْتَ أَنْتَ تُخْفِي إِيمَانَكَ بِمَكَّةَ مِنْ قَبْلُ»[5].

ومن مظاهر هذه السرية اجتماع النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه سرا في دار الأرقم بن أبي الأرقم، وكان شابا من بني مخزوم قد توفي أبوه فيما يظهر، أسلم سابع سبعة وقيل أسلم بعد عشرة ،وكانت داره عند الصفا، فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يجتمع فيها خفية بمن أسلم، وواضح أنه اجتماع تعليم، وليس اجتماع تنظيم، وأن ما كان يقوله النبي صلى الله عليه وسلم وهو مستخف في دار الأرقم هو ما كان يقوله لملأ قريش إذا لقيهم، ولم يكن القصد من هذا اللقاء إخفاء ما يقال، ولكن إخفاء إسلام من لم يعلن إسلامه، وقد استمر هذا الاستخفاء في دار الأرقم بن أبي الأرقم إلى أن كثر المسلمون وصار لهم منعة وشهرة، وحتى تكاملوا أربعين رجلاً، وكان آخرهم إسلاما عمر أسلم  سنة ست من البعثة، وقيل سنة تسع.

وهذا يعني أن هذه السرية رخصة لبعض الأتباع لحاجتهم إليها، وليست حالة للداعي صلى الله عليه وسلم الذي أُمِر بالقيام بالنذارة والتصدي لها والصبر عليها.

 

وهذه السرية في الأتباع يلاحظ فيها:

  1. أنها ليست شاملة لكل من أسلم، فهناك من يسلم ويعلن إسلامه لأول وهلة كأبي بكر الصديق، والزبير، وعثمان وغيرهم لشرفهم ومنعتهم.
  2. ليست محدودة بسنين ولكن بظروف كل مسلم وحاله، ولذا فهناك من أعلن إسلامه حين أسلم، وهناك من أخفى إسلامه ثم جهر به بعد ذلك، وبقي من هؤلاء نفر أخفوا إسلامهم إلى فتح مكة وفيهم أنزل الله تعالى قوله: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ}.

وهذا حكم محكم يتكرر كلما تكررت ظروفه، كما قال الله تعالى عن مؤمن آل فرعون: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ}.

وكما جرى للمسلمين في الأندلس بعد سقوطها، وللمسلمين في بعض الدول الشيوعية، وفي كل مكان وزمان يخاف فيه المسلم إظهار دينه.

كتبه: عبد الوهاب الطريري

 

[1] موسوعة التفسير بالمأثور (16/427).

[2] التحرير والتنوير، تفسير سورة المدثر.

[3] صحيح مسلم (832).

[4] صحيح البخاري (3861)

[5] صحيح البخاري (6866)

نشر :

إضافة تعليق جديد

 تم إضافة التعليق بنجاح   تحديث
خطأ: برجاء إعادة المحاولة