الأربعاء ، ٢٢ شوّال ، ١٤٤٥   -   01 مايو 2024

عن سماء الذاكرة

 

كتاب جميل محلق عن سيرة حياة جادة ، تترجم الآية القرآنية (و ابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا ) الى واقع. ولعل الذين يعرفون الرجل الذي كانت تهتز له المنابر ، أو رأوه وقد تهدج صوته و دمعت عيناه عندما يتحدث عن حبيبه محمد صلى الله عليه و سلم يدهشون ،لانهم يقرأون عن حياة لا يتوقعها أكثر الذين سمعوا عن نجد ولم يروها ، نجد التى قامت فيها دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب ، الدعوة الإصلاحية التي تتميز بحساسية فائقة تجاه أي مساس حقيقي أو متخيل بالعقيدة الاسلامية ، و التى ظن الناس أن ما فيها من صرامة عقدية طبع حياة أهلها بطابع بعيد عن اللين و السماحة ، و حب الحياة، و لكن هذه السيرة ستكشف لهم كم كانوا واهمين.

يعرض الدكتور عبدالوهاب حياته من خلال عناوين، كل عنوان تدور حوله وقائع الحياة ، أحداثها ، تجاربها و تفاعلاتها في نفس الشيخ ، ولا ينسى أن يستخلص لك الحكمة في أسلوب لاوعظى . تجد العناوين ، حارتنا، مساجدنا، اعيادنا ، …الخ ، بعض الفصول كالفصل عن أول يوم في السجن والفصل عن آخر يوم في السجن يصلح كل منهما قصة قصيرة مكتملة العناصر الفنية إلا قليلا ، و الكاتب بارع في التقاط الصور وإبراز ما فيها فكأنما يدخلها مختبرا للصور( photoshop) لتصبح أوضح دلالة وأجلى منظرا.

كلما تحدث الكاتب عن اهله كلما فاض اسلوبه عذوبة و رقة ، نسافر مع جده وقد اضطرته الحاجة الى العمل في الغوص في الخليج ، يكاد يضيع في الهند لولا أن تداركه الله برحمته، ثم نعيش مع ابيه في مكتبته و نعاين مهارته في التدريس و تفوقه في علم الفرائض، و ورعه لدرجة قد يراها البعض مبالغة غير مألوفة ، ثم نأسى لحاله اليوم ، يذكرك حاله اباك او قريبك و قد استولى عليه عته الشيخوخة بعد عمر قضاه راضيا في معالجة الحياة . كما تعيش مع جداته ، و خاصة الجدة التى تعيش معهم للصلاة والقرآن ، فتهب البيت سكينته و رواءه. ثم هذه الأم الودودة التى لا زال ابنها يمازحها مستفزا ، و يقصدها كى تصبغ شعر لحيته حتى و قد بلغ الستين، ثم كيف ينوع في أشكال البر و الملاطفة، و احسبه صدح متغزلا مع درويش بخبز أمه، و قد فرت امه مع والده بعد أن تزوجا بسبب اشتراط ابيها ان تبقى بعد زواجها في القرية ،بينما زوجها يعمل في المدينة ،ذكرى بقيت في العائلة مصدرا للطرافة و الحكايات، أما زوجته فيهديها الكتاب، و يقول في اهداءه كلمات : أنها كانت معه في كل انجاز ، لا امامه ولا وراءه ،وهذه كلمات تؤكد المساواة بين طرفى العلاقة المشكوك في وجوده في بيوت أكثر العرب ، و في مكان آخر ،و عندما يتحدث عن أسفاره، يقول انه فى كل مرة يسافر مع عدد من ابناءه و بناته، و لكنه يخصص اسفارا يصطحب معه زوجته فقط ، و هنا يعقب أن الناس اعتادت أن يكون ذلك مقصورا على شهر العسل ، و لكنه وزوجته قررا سكب العسل على كل الشهور. و في لحظة نادرة يكتب فيما يشبه الاعتراف مشيرا الى زوجاته اللواتي كن معه فأغنى الله كلا من سعته، وهو يدعو لهن بخيري الدنيا و الاخرة و يسأل الله المغفرة على كل تقصير ، يذكر أنه تزوج في التاسعة عشرة ، و يثنى على الزواج المبكر و الذرية التى تؤنس الوالدين قبل أن يرذل العمر. و قد كان أحري بالشيخ أن يأتي ببعض التفصيل عن تعدد الزوجات ، و ما أوصلته إليه تجربته فيه، خاصة وهو نادر في عصرنا.

يتحدث الطريري برومانسية عن مدينته الزلفى و عن حيهم دخنه الذي نشأ فيه في الرياض ، وهو حي العلماء ، هنا تجد وصفا للمدن التى كانت تبنى من الطين، وتستقي الماء بالدلاء ، و تبنى أبوابها من جذوع النخل لتبقى مفتوحة أبدا تستقبل الباحثين عن مأوى، تبرد مياه الشرب في القرب المصنوعة من جلود الشياه ، رفاهية أهلها بعد انقضاء النهار عد النجوم في السماء ، هنا وصف شائق لما كاد يندثر من حياتنا ، أما عند الشيخ فهذه المدن جعلته أكثر استرواحا للمدينة التي عاش فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ايام هجرته، و سهلت عليه التعايش مع صحابته بالشوق و الأحاسيس و الممارسة. وساعده ذلك على بعث الروح في النصوص التي كتبها في السيرة ليستظل قارؤها بافياء الرسول المباركة.

أكثر ما يلفت نظر قارئ هذه السيرة ، هو الثراء الثقافي الذي اكتسبه من الانفتاح على كافة انواع الثقافة المفيدة ، نراه وقد انشغل في بكوره بأمات كتب الاصول ، لدرجة انه انصرف عن الفكر الحركى مما زهد فيه اهل الجماعات الدينية كما زهد هو بتنظيماتهم ، و ثنى ركبتيه في مجالس علماء نجد، حتى إذا اخذ من ذلك بنصيب وافر وجعله موضوع اختصاصه، و شهاداته العالية ، انفتح بعد ذلك على سائر الثقافات، بل و تعمق فيها ، و اشارته الى بعض ما قرأ منها تجعلك واثقا بأنه لا ينبئك مثل خبير ، فهو يشير مثلا إلى منهجه في كتابة سيرته أنه لا يريد أن يقتفي جان جاك روسو في مباذله ، و لا محمد شكري في خبزه الحافى، و المعنى لا يتضح هنا الا عند من قرأهما فرأهما لم يدعا سترا الا كشفاه و لا عيبا الا فضحاه ، واصبح هذا مذهب في كتابة السير الذاتية يتعري فيه الكاتب أمام قارئه ، عند حديثه عن نجيب محفوظ يذكر مواقف لابطالها باسمائهم و حالاتهم وكأنه قرأها البارحه ، و يعلق على نظرات المنفلوطى و ماجدولينه تعليقات يخالف فيها النقاد عن عمق في الفهم و دربة في القراءة ، و يتحدث عن تشيكوف و غوغول حديث المعجب ، و يستثقل ديستوفسكى كما استثقل الحرب و السلام لتولوستوي و مئة عام من العزلة لماركيز ، و يذكر ان بعض علماء الشريعة لا ينصحون بقراءة الرواية لكنه يري انها مهمة لمن يريد ان يكتب في السيرة ، إذ تصقل اسلوبه بما فيها من براعة في فن التصوير. و قرأ في التنمية الذاتية و حضر دوراتها و سبر غورها ، و نقدها نقدا صحيحا ، كما قرأ مجلدات مجلة الرسالة و مجلتي العربي والهلال ايام عزهما ، و ساقه ذلك ليزور الدكتورة نعمات أحمد فؤاد و وديع فلسطين ، كما و زار المسيري و جلال أمين اعجابا ببعض ما كتباه ، بل إن له صورة مع الكاتب اليساري صاحب المكانة المحترمة عند المثقفين على اختلاف أطيافهم الأستاذ محمود أمين العالم ، و عندما زار دمشق استصحب معه دليلين الشيخ على الطنطاوي و كتاباته التي تفوح برائحة الياسمين الدمشقى ، كما استصحب نزار قبانى الذي فرش أهدابه على ثرى دمشق ، و لا يجمع بين القبانى و الطنطاوى على ما بينهما من خلاف الا ثقافة نادرة متصالحة ، بل أنه قرأ البؤساء صغيرا و شرح له والده ما جعله يفهم شخصية جان فالجان، و لعل ثقافته الأصولية أعطته بوصلة الصواب ، فقد انصرف عن معالم في الطريق و احتفى بظلال القرآن بل و تدارسه مع شيخه ، و ما زال يغرف منه و من كتاب التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور، بل في حديثه ما يدل على قراءة لبعض كتب الصوفية ككتب ابن عطاء الله السكندري وكذلك الفتوحات المكية لابن عربى ، و هذا غير مألوف عند علماء نجد الذين أخذوا العلم في بيئة السلف.

و قد اولع بالاسفار، يبحث في أسفاره عن الناس لا عن الفنادق، و يتبع اللحظة و لا يتبع الخريطة كما قال، فهو يستمتع بالمكان و الآثار و المتاحف، واذا استطاب مكانا ترك لنفسه العنان لتاخذ حظها من السرور و لو ألغى ذلك شيئا من جدول الزيارة ، و حمله حب الترحال الى كثير من الدول العربية منها ليبيا و الجزائر و المغرب ، و دولا أوروبية كثيرة ، و زار قصر باكنجهام ، و قصر يلدز والبيت الأبيض، و قارن بينها في مستوى الفخامة و حلل تأثير قوة البلد على قصور ملوكها. وزار الهند بحثا عن مخطوط" مسند أبي داود الطيالسي". و فجع كثيرا عندما رأي الشرك عمليا بأكثر ما فجع عندما قرأ عنه في الكتب ( إن الشرك لظلم عظيم), تمنيت لو زار الصين و روسيا كما زار رومانيا ،إذا لأتى بالعجائب.

و في الذكريات شيئ من تاريخ الأفكار السياسية والتيارات الدينية في السعودية منذ وعي الرحل عليها ، كان خلالها ناصحا رفيقا ، يعارض في تعقل، و ينصح في إخلاص ، و له رأيه الخاص في معظم تلك التيارات، و كانت له محاذيره و تحفظاته على سفر الشباب للمشاركة في الجهاد الافغانى و في الشيشان ، ودعا الى اعادة استيعابهم في المجتمع حتى لا ينجرفوا للعنف قبل أن يحدث ما حدث، ولم يكن ممن تعاطف مع ما سُمي بـ غزوة منهاتن ، و الرجل قلما ينتقد أحدا ، فإذا اضطرته الامانة العلمية الى ذلك ذكر نقده بعد أن يحيطه بالمديح و الأعذار ، كنقده للشيخ الألباني مثلا، و يقول عن منهجه في علاقته مع تيارات الإسلاميين انه ليس سمسارا لمذهب ولا مروجا لمنهج ولا مريدا لشيخ وانما مجتهد في اتباع الرسول صلى الله عليه و سلم . و أما نشاطه في العمل العام فهو كثير ، وقد شارك في مذكرات النصيحة التي كان لشيخه عبدالعزيز بن باز دور فيها ،و فوجئ بالتصرفات اللامسؤولة التي ظهرت من بعض المشاركين مما أفسد الغاية منها . و بعد ان توقف عن الخطابة و التدريس الجامعى كانت له تجربته الرائدة في موقع الإسلام اليوم وهو من أوائل المواقع التي استفادت من الشابكة في خدمة الإسلام ، وقد تمنيت أن يفصل في ذلك. أو أن يجعله في كتاب منفصل لأهميته.

الخلاصة أن الشيخ قد حلق بنا الى السماء السابعة ، و لكن هناك الكثير مما تركه على الأرض ، و ليته يستدرك في كتاب قادم، و خاصة عن رحلاته في دول العالم و أظنها تستحق. و ليته ممن حطت رحاله في مركز إسلامي في امريكا او اوروبا و لو بضع سنين، فسعة أفقه، و واقعية فقهه و يسره ، ورحابة ثقافته كانت ستدفع التبشير بالإسلام هناك الى افاق واسعة.

كتبه: د. صالح الشحري

نشر :

إضافة تعليق جديد

 تم إضافة التعليق بنجاح   تحديث
خطأ: برجاء إعادة المحاولة