الأربعاء ، ٢٢ شوّال ، ١٤٤٥   -   01 مايو 2024

استبشروا ببيعكم

 

هما الإمامان وأميرا المؤمنين في الحديث، جمعهما العلم والتقى والورع كما جمعهما أعظم يوم وأعظم مشهد؛ فهذا الإمام عبد الله بن المبارك يقف على الإمام سفيان الثوري في صعيد عرفة في يوم عرفة، والناس على حالٍ من اللَّهَج بالذكر، والضجيج إلى الله بالدعاء، والعجيج له بالتلبية في مشهد مِن مشاهد العبودية، وهو يستشعر عظمة هذا اليوم، وعظمة هذا الموقف، وعظمة الربِّ العظيم الأعظم الذي يتجلَّى لعباده في هذا المشهد، فيباهي بهم ملائكته، وكان في حال استغراق مع هذا المشهد ما يفيضه على النفس من فيوض إيمانية، وقد جاشت عاطفته وجعلت عيناه تذرفان، فقال له ابن المبارك: مَن أسوأ هذا الجمع حالًا ؟ قال: الذي يظن أن الله لا يغفر لهم.

وفي موقف آخر بعرفة كان العالم العابد الفضيل بن عياض يرى بكاء الناس ودعاءهم عشية ذلك اليوم فقال لأصحابه: لو أن هؤلاء ساروا إلى رجل  فسألوه دانقًا – سدس درهم- أكان يردهم ؟ قالوا: لا. قال: والله للمغفرة عند الله أهون من إجابة رجل لهم بدانق.

إن هذه الروح لدى هؤلاء العلماء العُبَّاد تتنسم رَحَمَات الله وهي تتقرَّب إليه، وتجد لذَّة التَّعبُّد وهي تتذلَّل له، فلا تظنُّ بربِّها إلا خيرًا، فضله وبرّه وكرمه وإحسانه ورحمته فهو أرحم الراحمين.

وإنما أفاض هذه المعاني العظيمة في قلوب الراسخين في العلم صحة التفقه في دلالات آيات الباري وأحاديث رسوله صلى الله عليه وآله وسلم والتي تملأ القلب تعظيمًا وحبًّا وحسن ظن وجميل رجاء، ولا يمكن أن تفيض دلالات الكتاب والسنة على القلب إلا هذه المعاني العظيمة الجميلة التي تملأ مشاعر الوجدان إجلالًا لله، وتعظيمًا له ورجاءًا لفضله، وحسن ظنِّ بجميل العقبى لديه، ولا يزال المسلم يتفقه آيات الكتاب ونصوص السنة حتى يجد هذا المعنى يتجلَّى له، ويأخذ بمجامع قلبه، ويشرق على جوانح نفسه.

لكنك واجد مَن يطفئ إشراق هذا المعنى بمعانٍ أخرى يحمل عليها نوع من الاجتهاد، ولكنها تحجب النفس عن جلال هذه المعاني العظيمة، فربما سمعت أذناك أحد إخواننا الوعاظ وهو يتحدث عن هذه العبادة العظيمة بما يشعر باحتمالات غالبة لعدم القبول، وربما أجال على المسامع  مرويات مثل ما رُوي عن بعض السلف أنه لبَّى، ثم أغمي عليه، فلما أفاق قال: خشيت أن يقال: لا لبيك ولا سعديك. وهذه أخبار تشتهر روايتها ولا يحرر نقلها، ولا أراها تصح، ولو صحت فينبغي أن تطوى ولا تروى، ويعتذر عنها ولا يحتج بها.

لقد تنزَّل جبرائيل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في طريقه في حجة الوداع، فأمره أن يأمر أصحابه بأن يرفعوا أصواتهم بالتلبية، فإنها مِن شعار الحجِّ، فضجت الجبال والوهاد بتلبية الصحابة، فلم يصلوا مكة حتى بحَّت حلقوهم([1])، ولم يُنْقَل إلينا أن أحدهم أغمي عليه، أو ظنَّ أن ربه سيتلقَّاه وقد أقبل عليه بهذا الرد: لا لبيك ولا سعديك. إن هذا الظنَّ لا يليق بكرم المخلوقين، فكيف بكرم الخالق جلَّ وعزَّ وتقدَّس!

ومثل ذلك ما يُروَى عن بعض السلف– ولا أُراه يصح- أنه كان يقول إذا رأى ازدحام الحجيج:  الركب كثير، والحاجُّ قليل.

وهذا من سوء الظن بالمسلمين القاصدين بيت ربهم والذين لم يكل الله أمر قبولهم إلى أحد مِن خلقه.

وفي مقابله تجد قول عمر رضي الله عنه للناس وهو بطريق مكة: تشعثون وتغبرون وتتفلون وتضحون لا تريدون بذلك شيئًا مِن عرض الدنيا، ما نعلم سفرًا خيرًا من هذا.

فانظر إلى ما في كلمة عمر رضي الله عنه مِن حسن الظن والبشرى بالخير.

ثم قد تسمع بعدُ التخويف مِن أن يكون عقبى العمل الردُّ وعدم القبول مِن غير ذكر سبب واضح لذلك مِن الموانع الشرعيَّة التي تكون سببًا لعدم القبول، وإنما يساق الكلام عن قبول الأعمال، وكأن قبولها مغامرة لا يدري العبد حظَّه مِن إصابتها، وربما سمعت أن علامة قبول الحسنة الحسنة بعدها وعلامة ردها السيئة بعدها، مع أنا نعلم أنه ليس ثمة عبادة تورث العصمة، ولو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم.

لعل السبب الذي يدفع هؤلاء الإخوة أن ينحو بحديثهم هذا المنحى هو خوفهم على الحجيج أن تتسرب إليهم آفات العجب والإدلال بالعمل.

ولكن نحسب أن العلاج بهذه الطريقة يُحْدِث عاهة أخرى، وهي سوء الظن بالله (أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء، إن ظن خيرًا فله، وإن ظن شرًّا فله)([2]).

ولذلك فإنك لا تجد هذا المنهج في أدب النُّبوَّة، فالمُطَّلع على أحاديث النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم في الحجِّ يجدها تملأ النفس رجاءً وطمعًا بكرم الله وجوده، ووافر فضله وعطاءه، (الحجاج وفد الله دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم) ([3])، (ما مِن يوم أكثر مِن أن يُعْتِقَ اللهُ فيه عبدًا مِن النار مِن يوم عرفة ) ([4])، (الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)([5])، (مَن حجَّ فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)([6]).

وعندما دنت الشمس للغروب في يوم عرفة في حجة الوداع، أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلالًا أن يستنصت الناس ثم قال لهم: "أتاني جبريل آنفًا فأقرأني السلام مِن ربي، وقال: بشِّر أهل الموقف والمشعر أن الله قد غفر لهم وتحمل عنهم التَّبِعَات". فقال عمر: هذه لنا خاصَّة؟  فقال: "هي لكم ولمن جاء بعدكم إلى يوم القيامة". فقال عمر: كثر خير الله وطاب.

فانظر كيف تساوقت دلالات هذه النصوص حاملة البشرى بالخير والوعد الجميل والظن الحسن بأرحم الراحمين.

إن من دعا الله فينبغي أن يدعوه مستيقنًا بالإجابة، ومن عبد الله ينبغي أن يعبده مستيقنًا بالقبول، ولولا الطمع بقبول العمل ما تعبد مُتَعَبِّد.

فيا كلَّ حاج عائد من الحج، بشراك بشراك؛ فقد وفدت على ربَّك الذي دعاك، فقصدت بيته وأنت تقول: لبيك لبيك؛ فوعزَّته وجلاله ما دعاك إلا ليدنيك، ولا استزارك إلا ليكرمك، ولا أمرك أن تسأله إلا ليعطيك، وما قال لك: ادعوني. إلا ليستجيب لك، (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ). إملأ قلبك يقينًا أنك وفدْتَ على الكريم الأكرم، وفدت في زمرة شعث غبر أتوا من أصقاع الدنيا بقلوب تتلهَّف حبًّا وتعظيمًا لله، فبسطْتَ يدك مع أيديهم، ورفعت مسألتك مع مسألتهم، ونكست رأسك مع رؤوسهم، وفيهم الأشعث الأغبر الذي لو أقسم على الله لأبرَّه، وهم القوم لا يشقى بهم جليسهم.

 إملأ قلبك يقينًا أن عملك الصالح قد قُبِلَ، وأن دعاءك قد استُجيب، وأن ذنبك قد غُفِرَ، وأنك عدت من ذنوبك كيوم ولدتك أمك، لقد سألتَ كريمًا، واستغفرتَ غفورًا، وتبت إلى توَّاب، واسترحمْتَ رحمانًا رحيمًا هو أرحم بك من أمِّك التي ولدتك، وتعاملت مع ربٍّ قال: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا). (أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى). (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا). (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ). هذا وعده، وذاك عهده، (وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ).

كتبه: عبد الوهاب الطريري

 

[1] - أخرجه أحمد (16567)، وأبو داود (1814)، وابن حبان (3803). وانظر مصنف ابن أبي شيبة (15282).

[2] - مجموع روايات حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاري (7405) ، ومسلم (2677)، وأحمد (9076)، وابن حبان (639)، وعن واثلة رضي الله عنه عند أحمد (1606)، وابن حبان (633) ، والحاكم (4/240).

[3] - أخرجه ابن ماجه (2892، 2893)، والبيهقي في شعب الإيمان (4104)، والبزار  (1153-كشف)، وابن حبان (4613).

[4] - أخرجه مسلم (1348).

[5] - أخرجه البخاري (1773)، ومسلم (933).

[6] - أخرجه البخاري (1521)، ومسلم (1350).

نشر :

إضافة تعليق جديد

 تم إضافة التعليق بنجاح   تحديث
خطأ: برجاء إعادة المحاولة