السبت ، ١٨ ربيع الأول ، ١٤٤٦   -   21 سبتمبر 2024

أيام اليمن المجيد

أيام اليمن المجيد

كم كنت مشوقاً لزيارة اليمن، ورؤية صنعاء القديمة، وكان أكثر ما شاقني لزيارتها أنها البلد الذي لا زال يحتفظ بعراقته ونكهة تاريخه، وأن السائر في صنعاء القديمة يخطو فيها فيراها كما كانت منذ مئات السنين، ويري التاريخ الذي يروي واقعاً شاهداً، ويري أماجد اليمن وبقايا علمائه وأعلامه على ذات السمت والهيئة.

فلما زرت صنعاء ذهبت من فوري إلى صنعاء القديمة، وزرت جامع صنعاء وتراءت لي هناك أطياف علمائها وأعلامها، وكأنما أرى ابن الوزير وابن الأمير والمقبلي وغيرهم.

وكنت بصحبة أخي الشيخ محمد العامري، وكان دليلنا في جولتنا الشيخ الإمام الشوكاني رحمه الله، فقد تحدث عن صنعاء وجامعها وحلق دروسها في كتابه «منتهي الأرب»، فكأنما كنا نرى ما رواه.

وحول جامع صنعاء ترى الأحياء القديمة بمبانيها وأسواقها وفيها عتاقة وعبق، ومشاهد تاريخية تعيد السائر فيها إلى عصور ماضية، ونمط حياة يوشك على الاندثار. وكان المنظر والرائحة والضجيج مثيرات للخيال والوجدان، تستثير النفس، وتستحضر التاريخ، فأرى غير ما أرى، وأعيش الماضي حاضراً منظوراً، ولكل ذلك انفعاله ونشوته:

أما هذه «صنعا» نعم إنها هنا بطلعتها الجذلى، بقامتها الفرعا

بخضرتها الكحلى، بنكهة بوحها بريا روابيها، بعطرية المرعى

لقد كنت في قلبي حضوراً على النوى ولكن حضور القرب عند الأسى أدعى

وفي اليمن التقيت بعلماء أعلام من النمط العتيق كالشيخ القاضي إسماعيل الأكوع، والشيخ محمد بن إسماعيل العمراني، والشيخ حميد قاسم عقيل، رحمهم الله. وهم من علماء الطراز العتيق في التلقي والطلب والتكوين.

وفي شيوخ قبائل اليمن صفات السيادة والقيادة العربية الفطرية، فالشيخ عبد الله الأحمر شيخ حاشد يذكرك بالأحنف بن قيس في حلمه وحكمته، والشيخ سنان أبو لحوم شيخ بكيل يذكرك بهرم بن سنان في كرمه وزعامته.

وكنت اسمع أخبارهم وكأني أقرأ مناقب سروات العرب في الجاهلية والإسلام.

وحازت اليمن وأهلها أعلى وسام يمكن أن يفخر به أهل بلد، وعندما زارهم الشيخ أبو الحسن الندوي ألقى محاضرة بعنوان «شلالات الإيمان»، وقال فيها: يا أهل اليمن خذوا أنهارنا وثرواتنا وأعطونا فقركم وقول رسول الله لكم: «الْإِيمَانُ يَمَانٍ، ‌وَالْحِكْمَةُ ‌يَمَانِيَةٌ» .

تجولت في اليمن فرأيت في شخصية أهلها خلطتها السرية وهي مزيج من الطيبة، وصدق اللهجة وعمق التدين، وعفوية التعامل وبساطته مع حمية النعرة العربية، وصلابة الأرض الجبلية.

ورأيت في مباني صنعاء القديمة مسحة رفاهية تظهر في شموخ البنايات وارتفاع طوابقها وتزاويق نوافذها، وتعدد أنواع الطعام والتفنن فيه، وعلمت من المؤرخ علي بن جارالله الذيب أن اليمن لو استمرت في خطوات التطور التي كانت في العهد العثماني في اليمن لكانت اليوم في المقدمة الحضارية أمام كثير من دول العالم، فقد كان فيها برلمان منتخب عام (1872م)، وسكة قطار عام (1911م)، وجامعة بها عدة كليات عام (1902م)، ومصانع للسلاح والحديد والصلب والنسيج ، فكيف ستكون اليمن لو استمر هذا التطور، وأين ستصل لو سار هذا التقدم؟!

ثم حصل التقهقر والتدهور بعد استيلاء الحكم الإمامي على اليمن، فدمر كثيراً من الشواهد، وطمس أجمل المعالم، وعرقل الوثبة الحضارية المتحفزة.

وزرت مدينة إب وتسمى اللواء الأخضر، ولها من اسمها نصيب، فمع زياراتي للمنتجعات الأوروبية إلا أن خضرة إب وجمالها طبيعي بكر، لم تشذبه أدوات الحضارة، ولم تعبث به آلاتها، فهو زينة الأرض وزخرفها، كما خلقها الله وزينها.

1- ولما تنقلنا في مدن اليمن بين قمم الجبال الشاهقة، ومهاوى الأودية السحيقة تذكرت قول النبي ﷺ: «وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ» .

وكأنما كان ﷺ ينظر إلى هذه التضاريس الوعرة، وتلافيفها الملتوية، التي يصعب سلوكها فضلاً عن حمايتها، فاختار أشد الطرق وعورة وخطراً ليخبر أن الأمن سيظللها، فكيف بغيرها من رحاب الجزيرة وفجاجها السالكة؟!

وعدت من اليمن وأنا على يقين أن هذا البلد مزدحم بالمواهب الواعدة، التي يمكن أن تقوم بأعظم الأعمال وأضخم الإنجازات، متى استقامت لهذا البلد حاله، وائتلفت كلمته.

ولئن كان اليمن رحم العروبة التي تدفع بأجيالها قبائل إثر قبائل، فإنها ما عقمت ولا زالت تنجب نجباءها، وكما أهدت إلى الإسلام أنصاره الأوس والخزرج، فإنها تدخر من أبنائها أنصاراً إثر أنصار، يرددون هتاف شاعر اليمن:

نحن اليمانين يا طه تطير بنا ** إلى روابي العلا أرواح أنصارِ

إذا تذكرت عماراً وسيرته ** فافخر بنا إننا أحفادُ عمارِ

كتبه: عبد الوهاب الطريري

نشر :

إضافة تعليق جديد

 تم إضافة التعليق بنجاح   تحديث
خطأ: برجاء إعادة المحاولة