الثلاثاء ، ١٣ ذو القعدة ، ١٤٤٥   -   21 مايو 2024

بيتنا

بيتنا

بيتنا

(من كتاب: سماء الذاكرة)

تنقلنا في طفولتي بين عدة بيوت من الطين، وكنا نسمي كل بيت باسم مؤجِّره، فنقول: بيت الوهيبي، وبيت السكيرين، وبيت السكيري، وهكذا، وذلك قبل أن يبني الوالد بيتنا الطيني الذي شهدت بناءه وأنا دون السابعة، ووعيت ذلك وكأني أراه الآن.

كان البيت الأول قريبا من جامع الفريان حوله نخل يسقى على الدواب على ذات الطريقة التي كانت في غابر الدهر، وهي الطريقة التي يرد ذكرها في أخبار السيرة، ومن أدواتها الغَرْب والرَّشا والمحالة، وكانت في البيت حنفية ماء واحدة في وسط البيت، ولم يكن ثمة كهرباء، فإذا جاء ضيف إلى الوالد في الليل أضاء له السراج الوحيد، أما العقارب التي تشاركنا السكن فحدث عن كثرتها ولا حرج، ولكن الله حفظنا منها فلا أذكر أن أحدا منا لُدغ منها، وكأن بيننا اتفاقية سلام مشترك، ثم انتقلنا في عدة بيوت بعده لا يطول لبثنا فيها حتى تم بناء بيتنا في حارة دخنة.

كان البيت فوق المتوسط بالنسبة لبيوت الحارة، فليس من كبارها ولا صغارها، ومما يميزه سعة مجلسه وبهوه.

وهذا البيت شهدت فيه وأسرتي أول ثلاجة، وودعنا بعدها القِرْبةَ التي كنا نبرد الماء فيها، وأول غسالة وودعت أمي طست الغسيل، وأول بوتغاز فودعت أمي موقد الكيروسين والذي كان يسمى (الكُولة والدافور).

أما المكيف فلم يزر بيتنا ذاك، وكانت فيه مراوح معلقة في السقف تحرك الهواء الحار فيصير سموماً لافحاً.

أما الذي يميز بيتنا هذا عن بيوت الحي كلِّها فهو وجود غرفة خاصة تسمى المكتبة، تحيط رفوف الكتب حيطانها الأربع، وكانت الغرفة الوحيدة التي يغلق بابها، وكانت المكتبة قدس الأقداس لا يدخلها إلا أبي، ولكن كنا نستمتع برؤيته وهو جالس فيها على مكتبه الصغير والكتب تحيط به والباب مفتوح أمامه حيث هو متنفس الهواء الوحيد.

وكنت أدخلها أحيانا مع أبي وأذكر مواضع الكتب فيها، فهذه الجهة فيها «فتح الباري»، و«جامع الأصول»، و«صحيح مسلم»، و«ذخائر المواريث»، وغيرها من كتب الحديث.

وهذه جهة فيها «تفسير ابن كثير» و«الإتقان» للسيوطي وغيرها من علوم القرآن، وهذه جهة فيها «الصحاح» للجوهري، و«الكامل» للمبرد، وكتب اللغة والأدب.

وكان الوالد رتب الكتب في رفوفها على الفنون فإذا أخرج كتابا أعاده إلى مكانه.

ولا أذكر أن في بيت من بيوت الحارة مكتبة ولا كتبا غير كتب الطلاب المدرسية.

أما السطوح فهي السكن الليلي في الصيف حيث تُفرش الفُرُش فيها قبل الغروب ثم نأوي إليها بعد صلاة العشاء مباشرة.

وفي الشتاء ننام في حجرات البيت، وفي فصل الربيع والخريف ننام في بهو البيت.

وكانت فرشنا طراحات من قطن نفرشها للنوم ونطويها إذا استيقظنا، ولم أعرف النوم على السرير إلا بعد أن تزوجت، وانتقلنا من البيت الطيني وأنا في العشرين من عمري.

ولم يدخل التلفزيون بيت الوالد إلى يومه هذا، ولذا فلم يقطع جلساتنا ولم يشغلنا عن بعضنا، وهو ما أتاح لنا الجلسات الحميمية مع والدي، وحديثه المأنوس إلينا.

وكان الراديو هو نافذتنا على الدنيا حين نستمع إلى إذاعة «هنا لندن» ببرامجها المميزة ومنها: «ندوة المستمعين»، و«قول على قول» لحسن الكرمي، و«العالم هذا المساء»، وحفظت أسماء مذيعيها: محمد مصطفى رمضان، وهدى الرشيد، ومديحة رشيد المدفعي، وماجد سرحان، ورشاد المحتسب.

ولا أزال أذكر ماجد سرحان يقدم ذات يوم برنامج العالم هذا المساء، فقال: العالم هذا المساء على حَطَّة إيدكم.

وكان في بيتنا جلسات العجائز بعد العصر يجتمعن إلى جدتي، وكانت مقصودة لصلاحها وقراءتها القرآن، فكانت تُقصد للرقية ومما أذكره سماحتها بالقراءة على كل أحد يطلب منها ذلك، فكانت قوارير ماء الورد تصف بين يديها فتنفث فيها، ومن المشاهد الراسخة في ذهني رفضها بحزم أي مقابل يُعرضُ عليها مقابل الرقية.

وفي هذا البيت توفيت جدتي وأنا في الخامسة عشرة وقد كانت لي صديقة وشيخة، وكان وجودها في البيت ضياء وبركة، وكانت وفاتها أول مواجهة لي مع الموت، وكان مشهد الاحتضار، ولوعة الغياب مشاهد لا تنسى.

واليوم أتذكر هذا البيت الذي شهد الطفولة والفتوة والشباب، وحفرت ذكرياته في قاع الذاكرة، وأتذكر ما انتقلنا إليه بعده من البيوت في حي الشفا وحي العليا ثم في حي الروابي، فأحمد الله وهو للحمد أهل أنه لم ينقلنا من دار إلا إلى دار أوسع منها، ولم يغير علينا إلا بالذي هو خير لنا، فلربنا الحمد والشكر.

كتبه: عبد الوهاب الطريري

نشر :

إضافة تعليق جديد

 تم إضافة التعليق بنجاح   تحديث
خطأ: برجاء إعادة المحاولة