الثلاثاء ، ١٣ ذو القعدة ، ١٤٤٥   -   21 مايو 2024

حياتي مع السيرة

 

تكونت علاقتي الخاصة بالسيرة النبوية وأنا في المرحلة الابتدائية، فقد أعطاني أبي كتابا في السيرة أتذكر صور صفحاته الآن، ولا أذكر عنوانه ولا مؤلفه، فما كان هذا يهم من هو في سني حينها.

استوقفني في هذا الكتاب السرد الوصفي للسيرة، وعلق بذهني وصف غزوة بدر، وجعلت أتخيل المشهد وأتفاعل معه، وشعرت بنقلة في قراءة السيرة تختلف عن طريقة المنهج المدرسي الذي كان يقدم السيرة لنا معلومات جامدة هي أسماءٌ وأرقام، مثل: ما اسم أم الرسول؟ ما اسم مرضعة الرسول؟ كم عدد جيش المسلمين في بدر؟ كم عدد شهداء المسلمين في أحد؟ متى وقعت معركة الخندق؟ ... وهكذا وكأنها استبانة وليست سيرة.

ثم قرأنا كتاب «بطل الأبطال» لعبد الوهاب عزام في المرحلة المتوسطة، وكان المدرس الأستاذ حمد الشبانة ينفخ فيه من روحه وذوقه، فصارت مادة السيرة مشوقة أخذت نفوسُنا نصيبَها من الارتواء الوجداني بها.

ثم كنت أسمع السيرة النبوية من الإذاعة وكانت قراءةً في كتاب السيرة النبوية للشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، يترنم بها الشيخ عبد الملك بن إبراهيم آل الشيخ بنبرة مميزة وأداء مشوق.

ثم قرأت كتاب «فقه السيرة» لمحمد الغزالي، وجذبني أسلوبه الأدبي الرائع، والذوق الوجداني الذي كتبه به، وسمعت أن دموعه كانت تختلط بمداده حينما كان يكتبه.

وهو كتاب مغموط القدر، لم ينل من الشهرة ما نالته كتب ألفت بعده ولم تبلغ شأوه ولا قاربت، ولكن كما قيل:

فكم في العرس أبهى من عروس  **   ولكن للعروس الدهر ساعد

ثم قرأت فيما بعد قراءة متوالية في كتاب «زاد المعاد» لابن القيم رحمه الله، فكان نمطا آخر وطرازا فريداً في عرض السيرة النبوية، واستخلاص الهدي النبوي منها، وهي قراءة ما زلت أجد ذخيرتها في نفسي إلى يومي هذا.

وتأثرت بتلك القراءة المتفاعلة لأحاديث السيرة النبوية حينما تقرأ على شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله، فترى من انفعاله وتفاعله عجبا، وكأنه يرى ما يُروي، ويعيش حَدَث الحديث بمشاعره ووجدانه، رأيته وحديث الإفك يقرأ عليه وقد احمر وجهه وارتعدت شفتاه، وغلبه الانفعال، فلم يستطع أن يعلق على الحديث بأكثر من عبارات متقطعة وجمل حبسها التأثر الشديد.

ورأيته يوم عرفة يحكي استشهاد النبي على الناس ثم قوله: اللهم اشهد، اللهم اشهد، وهو يحكي الحركة بأصبعه ويشير بها ويقول: ونحن نشهد، ونحن نشهد، ثم تلجلجت العبارات واختلطت بنشيج البكاء، ومشاهد أخرى غيرها جعلت الحياة مع السيرة ذوقا ووجدانا.

وممن تأثرت به في أداء السيرة الشيخ محمد الراوي رحمه الله، وكان يروي وقائعها في خطبه بنبرته المؤثرة، وعبارته البليغة، وأدائه الرائع، وقد استوقفته يوماً وهو يهم بالخروج من قسم القرآن وسألته عن طريقة قراءة السيرة وأدائها؟ فوقف لي وانطلق في كلام مسهب ختمه بهذه الجملة الجامعة الرائعة: «السيرة النبوية ليست قصة ماضية، ولكنها سنة باقية».

ثم تكونت لدي حصيلة أوسع بعد أن صرت أقدم دروسا لجمع من الزملاء أُحضِّر لها من «سيرة ابن هشام» مع تعليق السهيلي في «الروض الأنف»، لكنَّ أتم تصور للسيرة حصلته كان من قراءة كتب السنة: الصحيحين، والسنن، والمسند، ومن خلال الكتب الجوامع كـ«الجمع بين الصحيحين» و«جامع الأصول» وغيرها، فإن هذه الكتب تروي وقائع حياة النبي ﷺ، وتفاصيل سيرته وشمائله، وما يجري في يومه، ويتكون بمجموعها تصور متكامل للحياة النبوية، وينقلك من سيرة المغازي إلى سيرة الحياة.

وكلما ازدادت معرفتك بالنبي ﷺ ازددت له محبة وتعظيما، وأيقنت بحكمة الله في اصطفائه ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ﴾، ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾، وتعرفت على مواضع القدوة في الحياة النبوية، فهي الثمرة العظمى من معرفة السيرة.

وقد ساعدتني النشأة الأولى في الزلفي وإدراكي بقايا من الحياة النجدية الأولى لقرب العهد بها على تصور البيئة النبوية في المدينة، ومعرفة نمط الحياة، لتشابه الواقع والبيئة والحال مع ما كان مُعاشاً حينها في نجد، فالأدوات هي هي بأسمائها وحقائقها: القصعة، والصحفة، والغَرْب، والرَّحل، والمحجن، والقربة، والشن، والثريد، والقديد، والأقط، والحيس، والتي قد تغير بعض أسمائها ولكن لم تتغير حقائقها.

ومثله نمط الحياة كالبكور فجرا، والقيلولة قبل الظهر، والغداء صباحاً، والعشاء عصرا أو مغربا.

وكل هذه المشاهد كانت وسيلة إيضاح قربت إلي تصور الأحداث والأحوال، فما احتجت أن أسأل ما هو الأقط ولا الغَرْب ولا الضَّب ولا السَّعدان، ونحو ذلك؛ لأنها كلها من مألوف البيئة.

بل إنني عرفت بلدة في نجد ينطبق عليها وصف قريش في مكة، فإن أهلها قبيلة واحدة متفرعة إلى عشائر كبطون قريش ومهنتهم الغالبة التجارة.

وبلدة أخرى هي أشبه بالمدينة، فأهلها قبيلة واحدة، ولكنها منقسمة إلى فئتين كالأوس والخزرج، وبينهما من المنافسة وسابق العداوة كما كان بينهما، وأهلها أهل نخيل متفرقة النواحي كعوالي المدينة وسافلتها.

وكل هذا يسر لي تصور الحياة النبوية كما كانت، فقد أدركت بقاياه ورأيت شواهده مما جعل الصورة تكتمل في مخيلتي، وقلما تحدثت عن مشهد إلا بعد أن تمثلته أمامي وجعلت أتكلم وأنا أصف ما أراه وليس ما قرأته، وعندما كتبت كُتَيباً عن صفة حجة النبي ﷺ قال لي كثير ممن قرأه: كأنما كنا نشاهد فيلماً أو نرى مشهداً.

وسبب ذلك كثافة الصور المنقولة عن حياة النبي ﷺ حتى صرنا نعيش تفاصيلها، وكأنا أدركناها وعشناها.

وعندما أقرأ بعض الكتابات المعاصرة عن السيرة أجد تباعداً في وصف بعض الأحداث عما تصورته من البيئة والحال النبوية، أما المسلسلات التاريخية التي تحكي السيرة فمما لا أطيق رؤيتها للبعد فيها عن واقع السيرة في طريقة الكلام واللباس ونمط الحياة.

فهل تتوقع عربيا من أهل الجزيرة يتكلم مع صاحبه وقد أدار له ظهره، أو يتكلم مع أهله وكأنه مذيع يقرأ نشرة الأخبار.

أما عالم الملابس والمساكن فصورة في خيال المخرج لا واقع لها في البيئة العربية ذاك الزمن.

وكل هذا حفزني إلى محاولة تقديم تصور أقرب للسيرة النبوية يتجاوز سيرة الغزوات إلى أحداث الحياة، ويجمع شتات المشهد في لوحة قريبة من التكامل.

وهو ما سرت عليه في رواية أحداث السيرة وكتابتها، فأتتبع روايات الحادثة المتفرقة كشظايا وأحاول جمعها كقطع الفسيفساء؛ ليتكامل من مجموعها لوحة متكاملة الصورة، ويحصل للنفس رواؤها وارتواؤها من مشاهد السيرة، وتتضحُ لها مواقع الاقتداء والأسوة.

وقدمت ذلك في كتاب: «اليوم النبوي»، و«قصص نبوية»، و«كأنك معه»، و«حديث الغدير»، و«القبر المقدس»، و«الآثار النبوية»، وبين يدي كتب ثلاثة عن: «الحياة النبوية»، و«الأماكن النبوية»، و«الأحداث الكبرى في السيرة»، يسر الله إتمامها.

كتبه: عبد الوهاب الطريري

نشر :

إضافة تعليق جديد

 تم إضافة التعليق بنجاح   تحديث
خطأ: برجاء إعادة المحاولة