الثلاثاء ، ١٣ ذو القعدة ، ١٤٤٥   -   21 مايو 2024

لهونا

لهونا

 

كنت بلا هوايات، سوى المطالعة والقراءة إن تيسر لي ما يناسب أن أقرأه، وكانت الهوايات عند لداتي بسيطة ومحدودة جدا.

في مرحلة الطفولة أدركت لعب الكعاب، ولعبة الحَيْد، وعُظَيم سرى، وأم خطوط ونحوها من الألعاب الساذجة، مما عرفتها ولم أشارك فيها، وبعد أن كبرنا شيئا كانت كرة القدم والطائرة هي لهو الفتيان، ولم يكن لي فيها قسمة ولا نصيب.

أما الهوايات الأخرى التي عرفناها بعد ذلك مثل جمع الطوابع، والمراسلة، والعزف الموسيقي فَترفٌ لا تتسع له أوقاتنا، ولا تُحصِّله قروشنا، ولم نعرفه إلا من خلال ملاحق التعارف في المجلات بعد ذلك. 

كان الوقت واسعا، وخيارات اللهو ضيقة، وفرصها محدودة وغير متيسرة، والحاجة أم الاختراع، فيخترع الفتيان أنواعا من الشقاوات يؤذون بها الناس ثم يستجمعون بعدها ضحكا، وتظل أحدوثتهم بعدها أياما، ومما أتذكره من ذلك أن الناس كانوا يكدحون في الأعمال والأسواق في الصباح الباكر فإذا اشتد الحر واستعرت الشمس عادوا إلى بيوتهم، أما العمال والغرباء فيأتون إلى المساجد والتي كانت باردة نسبيا، فينامون فيها إلى صلاة الظهر، وفي فترة القيلولة هذه ينطلق فتيان الحارة الأشقياء والذين أرافقهم أحيانا بصفة مراقب، فأنا لا أملك جرأتهم ولا سرعتهم.

فيدخلون المسجد ويغترفون ماء باردا من سقاية المسجد ثم يَختُلون هؤلاء النوام فيختارون أكثرهم استغراقا في النوم فيطوحون عليه ما بأيديهم من مغارف الماء الكبيرة التي كأنها صهاريج، وقبل أن تصل إليه يكونون قد وصلوا إلى باب المسجد ينظرون إلى فزعه إذا فزع، وانفعاله إذا قام في حال اهتياج، وثورةِ غضب، فيعدو خلفهم لعله يظفر بأحدهم فيفرغ فيه ثورة غضبه، ولكن أنى له ذلك وقد تفرقوا في السكك مثل الجرذان، فإذا اجتمعوا بعد العصر كانت أحدوثتهم حكاية شقاواتهم في الضحى، وردات فعل ضحاياهم، وتقليد انفعالاتهم، ولا ينتهي المجلس إلا بإعداد خطة لغارة جديدة يفتتحون بها مسجدا لم يدخلوه، وأرضا لم يطؤوها، ولم تصلها نذر غزواتهم بعد.

ومن شقاواتهم تلك أن الكيروسين كان وقود الناس بمواقدهم التي تُسمَّى الكولة والدافور (البريموس)، وكان باعة الكيروسين يتجولون في الحارات بعربة كارو يجرها حمار، وعليها برميل مليء بالكيروسين، ويسمى (القاز)، ولها حنفية خلفية يفرغ البائع منها لزبائنه في أوعيتهم التي في البيوت، وغالبا تكون تنكة، ويسير في السكك وهو ينادي بصوت يترنم به (إيلقاز) ويمد بعض حروفها ست حركات، وبعضها سبعاً وعشرين حركة حتى يسمعه اليقظان والنائم والميت أحيانا.

فكان الأشقياء يتآمرون به فإذا مر بهم، سار خلفه أشقاهم وأخفهم حركة وفتح حنفية القاز بخفة فينتثر في الطريق وهو لا يشعر به، فإذا توقف عند أحد البيوت ليملأ لهم التنكة وجد البرميل فارغاً وحمولته قد تناثرت خلفه في خيط طويل لا يدري أين طرفه، ولا تسل عن فجيعته وفزعه وصياحه على من حوله، وكمرات المراقبة الصبيانية تراقب المشهد ليكون لهم ملهاة ومتعة بقدر ما هو لهذا العامل فاجعة ومصيبة.

ومن تلك المشاهد المثيرة والراسخة في قاع الذاكرة هذا المشهد:

يوجد في كثير من بيوت الحارة أحواش خلفية لتربية الأغنام، فإذا تراكمت فضلاتها جاء عمال السماد يحملون هذه المخلفات على الحمير ويبيعونها سمادا لأهل المزارع القريبة من الرياض.

وفي ضحوة أحد أيام الصيف استدعى جيراننا أحد عمال السماد هؤلاء لينظف لهم حضيرة الماشية، فجاء بالحمار وجعل عليه الوقر([1]) ثم جعل يتردد بين الحمار وحوش الغنم والذي يكون في أقصى مكان من البيت فيملأ زنبيلا كبيرا معه ثم يحمله فوق رأسه ويعود به فينثره في وقر الحمار، ثم يرجع كرة أخرى، ويظل يتردد ذهابا وإيابا ينقل أكوام الروث حِمْلا حِمْلا، حتى إذا امتلأ الوقر مد خشبة بين طرفيه تكون تحت بطن الحمار حتى يتسع هذا الوعاء الكبير، ثم يستأنف رحلة النقل، وكنت صغيرا استمتع بمنظر العامل ذهابا وإيابا، وكان رجلا أسمر اللون، قويَّ البنية، يعمل بهمة ونشاط، وتظن أنه فرحٌ بعمله لا يحب أن يشاركه أو ينافسه فيه أحد، ويتلمظ فرحا للمكافأة التي سيأخذها من صاحب البيت الذي يحمل منه السماد، ومن صاحب البستان الذي سيحمله إليه.

أما الأستاذ الحمار فكان ثابتاً في مكانه، مدلياً رأسه وكأنه مستغرق في تفكير عميق.

وكان الأشقياء يتظاهرون باللعب فيما بينهم وهم يحيكون المؤامرة ويرسمون الخطة المحكمة، فاتفقوا مع ابن صاحب البيت أن يراقبه من داخل البيت حتى إذا لم يبق إلا قدر زنبيل أو اثنين أخبرهم، وهكذا كان، فقد كان العامل ينقل هذه الأحمال، وكلما أوشك الوقر على الامتلاء جعل يوسعه ويمده ويرفع جوانبه حتى يحمل أكبر قدر من الحمولة، وكأنه قد عزم أن يجرف ما في الحضيرة كلها في حمل واحد، وكأنك تراه وقد أوشك الوقر على الامتلاء وأوشك العمل على الانتهاء، وفرصة الظفر توشك أن تكتمل إذ جاء ابن صاحب البيت من الداخل يقول هامسا لشيطان العصابة: خلاص خلَّص ما بقي إلا واحد.

فلما دخل العامل ليحتمل النقلة الأخيرة وينهي عمله البطيء المتعب الذي دام أكثر من ساعتين إذ بهؤلاء الأشقياء يقلبون الوقر بحمولته والتي انتثرت على الأرض، وتبددت على مساحة واسعة، وتبدد معها الجهد الطويل والعمل المتواصل، ثم هربوا سراعا وكأن الأرض فتحت لهم ثم أطبقت عليهم، ولما خرج العامل بحمله الأخير رأى حمولته تلك منتثرة على مساحة واسعة من الأرض، جُن جنونه، وفقد عقله، وانطلق يعدو على غير هدى لعله يمسك بأحد هؤلاء الشياطين، إذاً لقطعه إِرَبا، ولخلط لحمه بدمه، وكأني أراه الآن وحالة الاهتياج ظاهرة على وجهه فرجع يسألني: وين راحوا؟ وين راحوا؟ وكنت لصغر سني بعيدا عن التهمة، فقلت له: من هنا، وأشرت إلى الطريق الذي ذهبوا منه، وهي معلومة عقيمة لا فائدة منها، فهو الطريق الذي لا يمكن أن يذهبوا إلا منه، ولكن المشكلة أن هذا الطريق يتفرع بعد قليل إلى ألف طريق، فمن أيها ذهبوا؟ وأي طريق سلكوا؟

ثم جاءني رسولهم بعد ذلك يسألني ماذا فعل؟ وكيف فعل؟ ومتى انتهى؟ وكأنما يريدون أن يستمتعوا بإكمال المشهد المتخيل الذي لم يحضروه.

ولا تعجب من لهوهم هذا فلم تكن لديهم أجهزة إلكترونية، ولا وسائل تواصل، ولا برامج ألعاب، ولا مجلات أطفال، ولا متنزهات ولا مدن ملاهي مما يتلهي به أطفال هذا الزمان ويشغلون به.

ولذا أفرغوا طاقتهم في مثل هذه الشقاوات، وجعلوها تسلية ولهوا.

كتبه: عبد الوهاب الطريري

 

([1]) الوقر هو زنبيل عريض يصنع من سعف النخل، ويوضع على ظهر الحمار فينفرج طرفاه على جانبي الحمار فيوضع فيها ما يراد حمله.

نشر :

إضافة تعليق جديد

 تم إضافة التعليق بنجاح   تحديث
خطأ: برجاء إعادة المحاولة