الثلاثاء ، ١٣ ذو القعدة ، ١٤٤٥   -   21 مايو 2024

رمضان الذي وجدته

«رمضان الذي فقدته»، كتب الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله تحت هذا العنوان مقالة ذات شجون وشجى، يتذكر فيها رمضان الذي رأته عينا طفولته، يَطْلُع على الناس فيرون هلاله في الأفق ونوره في القلوب، وأثره في النفوس وفي البيوت وفي الأسواق والمساجد، ثم تغير رمضان بعدُ في ناظريه بعد أن تقدم به العمر وتغير الحال، فلم يعد يرى رمضان الذي رآه، فقال: كان رمضان الذي يجيئنا ونحن أطفال رمضاناً حقيقيّاً، ثم اختفى فلم يعد له وجود إلا في مفكرة التقويم، أين ذلك الرمضان؟ أين هو؟ دلوني عليه لعلي أجد فيه ماضي الذي فقدته، وأُنسى الذي أضعته.

ثم تدفق قلم الشيخ في مقالة باكية يشكو فيها بثه وحزنه، وينثر أساه ولوعته، ويقارن ماضيه بحاضره، وينعي رمضان الذي عرفه ثم فقده، وكانت مقالة مؤثرة جعلتني أطوف في ذكريات العمر وأسترجع قوافل رمضان الذي أدركه وعي صباي وبدوات شبابي، ماذا سأقول لو أردت أن أحكي كما حكى الشيخ وأروي كما روى؟

تذكرت فطافت بي ذكريات وازدحمت مشاهد، وثارت في النفس شجون، أين رمضان ذاك الذي أدركته؟

وأين منه رمضان هذا الذي أعيشه؟

أدركت رمضان في بدوات العمر ووعيته في حارة متواضعة بين البيوت الطينية، والأزقة الضيقة المتربة، والحياة المتخففة من كثير من رفاهية الحياة، وتدافعت أطياف المشاهد أمام ناظري فأثارت لواعج الحنين إلى ذاك الزمن، وتلك الشخوص، وذاك الإيقاع الهادي للحياة.

ولكني أصدق نفسي وأصدقكم فلن أُلوّن الماضي وأزوقه، ولن أرسم الذكريات بريشة رسام يصبغها بمشاعره لتكون الأجمل الذي لن يعود.

أتذكر رمضان الذي عرفته فإذا قارنته برمضان الذي أعيشه فلن ألتاع كما التاع الشيخ الطنطاوي، ولن أنتحب كما انتحب، أدركت رمضان فتى فلم أجده بين لداتي بإشراقه وروحانيته، كنت أغشى المساجد وأتبع أثر أبي إليها، فلم تكن روح رمضان موجودة إلا في الأشياخ العُبَّاد الزُّهّاد الذاكرين المتهجدين، أما الشباب في سني حينها فلا تجدهم في الصفوف الأول فضلاً عن المحاريب، ولكن تجدهم في المساجد إن وجدتهم في أطراف الصفوف المتأخرة ينفلتون منها بعد أن يقضوا صلاة سريعة.

إن تَلَفَتَّ في المساجد قبل الصلاة وبعدها فإن الذين يسندون سواريها هم بقايا الأشياخ، أما لداتي من الفتية والشباب فقد تفرقُوا هنا وهناك، مما لست أدريه أو لست أحكيه.

كان رمضان في حياة أترابي شهراً تتغير فيه مواعيد المباريات وتتسع أوقات اللهو.

أما روح رمضان وروحانيته فلا نجد لها ذواقاً، فلا أذكر في حيِّنا مسجداً يؤمه شاب، ولا تسمع القرآن من حافظ إلا قلة من الأشياخ لهم ترنم بالقرآن غير مجود.

لا أتذكر في رمضاناتنا دروساً ولا مواعظ ولا رقائق إلا الترنم بكتاب «عقود اللؤلؤ والمرجان»، يقرأه الإمام قراءة ملحنة ليس لها أثر ولا تأثير.

إذا تذكرت رمضان في بدوات أعمارنا فلن أزعم أنه رمضان التهجد والتلاوة والذكر والروحانية، لا والله فما كان ذلك مما يتذوقه الشباب في عمري وإن كانوا يرونه في حال الآباء والأشياخ.

كانت صلاة العشاء تقام صفوفاً ثم ينفض أكثرها بعد السلام، ثم تقام التراويح بمن بقي فيتناقصون بعد كل سلام حتى لا يبقى إلا من هم خلف الإمام.

كنا في غمرات الشباب نقطع رمضان فلا نعيش روحه وروحانيته ولا نلتذ بلذاذته.

ولم يبق في ذكرياتنا منه ما يستثير الحنين إليه، أدرك شبابُنا رمضان منطفئاً عبرناه في غفلة العمر ولهو الشباب، فلم نعش فيه روحه ولا حياته، ولا نذكر من مراسمه ورسومه إلا تلك الأكلات القليلة التي لا تُعمل لنا إلا في رمضان فقط لا غير، فكأنها من شعاره وشعائره.

ثم رحلت بنا السنون، فأدركنا في عقود العمر الأخيرة رمضان آخر، رأيناه في صفوف المساجد المتراصة، وفي وجوه الشباب النضرة تزدحم على الصفوف الأُول، وتملأ جنبات المساجد، رأيناه في المحاريب يقف فيها الشباب الحفظة المجودون يترنمون بالقرآن غضّاً كما أُنزل.

أدركنا اليوم رمضان تقام فيه صلاة العشاء وتنتهي آخر التراويح والجمع هو الجمع أو يزيد في حشود لا تُمايزُ المظاهرُ فيها صدقَ التدين، فالكل يذوب في سبح إيماني، وتألق روحي، ربما صليت وإلى جانبك شاب مرسل الشعر بملابس الشباب الحديثة، فإذا استغرق في صلاته غلبك ما تشعر به من حاله، مخافتةٌ في الدعاء، ورقةٌ في الخشوع، وصدقٌ في الإقبال على الله، فلا تتمنى إلا أن يدعو لك في دعائه لأنك لا تظن إلا أن أبواب السماء فتحت لدعواته الضارعة، وأن ربه قد عجب له.

أدركنا اليوم رمضان ونحن نرى المصاحف ترفعها الأيدي الشابة المتوضئة بقراءة عذبة متقنة، ورأينا سنة الاعتكاف وقد أحييت وفشت، وأدركنا رمضان اليوم في شبابنا الذين تمتد سواعدهم الرحبة في الأعمال التطوعية من زيارة الأربطة، وتوزيع الأطعمة، ومواساة العمالة المغتربة، وإحصاء الأسر الفقيرة، وتنافسٍ في مشاريع البر وأعمال الخير.

أدركنا رمضان بشبابنا الذين عرفوا لرمضان قدره وحقه، فأهاتفهم من قلبي المحب لهم وأقول: اهنئوا برمضان فما هو برمضان الذي كنت أعرف، أنتم جعلتموه أكثر إشراقاً وبهاء، وعمرتموه فعادت لروحانيته الروح، وعاد رمضان شهراً للقرآن وللقيام والتهجد والخشوع، وعبرات الخشية تذرف على وجوه غضة نظرة.

أما إن تذكرت ما أشتاق إليه من رمضان الذي أدركته فهو ما كنت أراه من حال الأشياخ الذين أدركناهم وكانوا أنضاء عبادة، يتحاملون على أجساد هزلى واهنة بتعبد يتذوقون لذاذاته، أتذكر وجوههم وقد ذوت في أصائل النهار وبدا عليها لغوب الصيام قبل أن تزور وسائل التكييف والترفيه بيوتنا.

أتذكر بحنين وشوق يوم كنا نسير في الأزقة في نهار رمضان فيسرب إلى مسامعنا من خلل أبواب البيوت الضيقة صوت يترنم بالقرآن من تلك البيوت العامرة بالذكر.

تلك هي المشاهد المضيئة التي تومض في ماضي الذكريات، أما ما نعيشه اليوم في رمضان فأنوار غامرة، وروح وحياة، وحضور لمعاني رمضان وحقيقته.

فيا أيها الشباب اهنئوا برمضان، واحمدوا الله على ما فُتح به عليكم، ولا يزهدنكم في رمضان اليوم حديث الكهول عندما يتباكون على رمضان الأمس فإنما ينعون شبابهم وليس رمضانهم.

فإذا تحدثت عن رمضان اليوم فسأقول: رمضان الذي وجدته.

(من سماء الذاكرة)

كتبه: عبد الوهاب الطريري

نشر :

إضافة تعليق جديد

 تم إضافة التعليق بنجاح   تحديث
خطأ: برجاء إعادة المحاولة